فصل: تفسير الآيات رقم (134- 136)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


فصل في أحكام تتعلق بالآية وصفة صلاة الخوف

وفيه مسائل‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ قال أبو يوسف والحسن بن زياد من أصحاب أبي حنيفة صلاة الخوف كانت خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لغيره بعده فعلها، وقال المزني من أصحاب الشافعي كانت ثابتة ثم نسخت واحتجوا لصحة هذا القول بأن الله تعالى خاطب نبيّه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ وظاهر هذا يدل على أن إقامة الصلاة مشروطة بكون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فدل على تخصيصه بها ولأن كلمة إذا تفيد الشرط وذهب جمهور العلماء والفقهاء إلى أن هذا الحكم لما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم بحكم هذه الآية وجب أن يثبت في حق غيره من أمته لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتبعوه‏}‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» ولأن ذلك إجماع الصحابة على فعلها وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه صلّى صلاة الخوف بأصحابه ليلة الهرير وكذلك أبو موسى صلّى بأصحابه بطبرستان وليس لهؤلاء مخالف من الصحابه وأجيب عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ بأن هذا وإن كان قد خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم فإن سائر أمته داخلون في هذا الحكم فهو كقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إذا طلقتم النساء‏}‏ إلا أن يرد نص بتخصيصه صلى الله عليه وسلم بحكم دون أمته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالصة لك من دون المؤمنين‏}‏ ونظير قوله ‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ وإذا كان هو المخاطب بها وقد ثبت حكم أخذ الزكاة لمن بعده من الأئمة كان كذلك قوله وإذا كنت فيهم وأجيب عن لفظه إذا‏:‏ بأن مقتضاه الثبوت عند الثبوت وأما العدم عند العدم فغير مسلم‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ قال الخطابي‏:‏ صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوال للصلاة وأبلغ في الحراسة فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى فمن أنواع صلاة الخوف ما إذا كان العدو في غير جهة القبلة‏.‏ فرق الإمام أصحابه فرقتين فتقف طائفة وجاه العدو فتحرس ويصلّي بالطائفة الأخرى ركعة فإذا قام إلى الثانية أتموا لأنفسهم وذهبوا إلى وجاه العدو فيحرسون وتأتي الطائفة الثانية التي كانت تحرس فيصلّي بهم الركعة الثانية ويثبت جالساً في التشهد حتى يتموا لأنفسهم الصلاة ثم يسلم بهم ويدل على ذلك ما روي عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوان عمن صلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وجاه العدو فصلّى بالتي بقيت من صلاته ثم ثبت جالساً فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالساً فأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم أخرجاه في الصحيحين الذي صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم هو سهل بن أبي حثمة وقد أخرجاه من رواية أخرى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه وذكر نحوه وهذا هو مختار الشافعي لأنه أشد موافقة لظاهر القرآن وأحوط للصلاة وأبلغ في حراسة العدو، وأما كونه أشد موافقة لظاهر القرآن فإن قوله ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك يدل على أن الطائفة الأولى قد صلّت قوله فليصلوا معك ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية حصلت مع الإمام وكونها أحوط لأمر الصلاة من حيث إنه لا يكثر فيها العمل من المجيء والذهاب وكونها أحوط لأمر الحرب والحراسة من حيث إنه إذا لم يكونوا في الصلاة كان أمكن للحراسة والكر والفر والهرب إن احتاجوا إليه وذهب قوم إلى أن الطائفة الأولى تصلي مع الإمام ركعة ثم تذهب إلى وجه العدو فتحرس وهم في صلاتهم ثم تأتي الطائفة الثانية فتصلي مع الإمام الركعة الثانية ويسلم الإمام ولا يسلمون هم بل يذهبون إلى وجه العدو، وترجع الطائفة الأولى إلى موضع الإمام فتقضي بقية صلاتها ثم تذهب ثم تأتي الطائفة الثانية إلى موضع الإمام فتقضي بقية صلاتها يروى ذلك عن ابن مسعود وهو مذهب أبي حنيفة يدل على ذلك ما روي عن ابن عمر قال صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف قال فكبّر فصلّى خلفه طائفة منا وطائفة مواجهة للعدو فركع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجد سجدتين ثم انصرفوا ولم يسلموا وأقبلوا على العدو فصفوا مكانهم وجاءت الطائفة الأخرى فصفوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى بهم ركعة وسجدتين ثم سلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم ركعتين وأربع سجدات ثم قامت الطائفتان فصلّى كل إنسان منهم لنفسه ركعة وسجدتين‏.‏

أخرجه النسائي قال أبو بكر السني سمع الزهري من ابن عمر ولم يسمع هذا منه والذي أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر قال‏:‏ صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك فصلّى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة وفي رواية أخرى قال‏:‏ صلى رسول الله صلى عليه وسلم صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلّى بالذين معه ركعة‏.‏

وجاء الآخرون فصلى فصلى بهم ركعة وقضت الطائفتان ركعة ركعة وبهذه الرواية المخرجة في الصحيحين أخذ الأوزاعي وأشهب المالكي وهو جائز عند الشافعي أيضاً ثم قيل إن الطائفتين قضوا ركعتهم الباقية معاً وقيل متفرقين وهو الصحيح والفرق بين الروايتين أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة وهي في حكم من خلف الإمام‏.‏ وأما الطائفة الثانية فلم تدرك أول الصلاة والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في حكم صلاته‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ فيما إذا كان العدو في ناحية القبلة وصورة هذا الصلاة ما روي عن جابر بن عبدالله‏:‏ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصففنا صفين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدو بيننا وبين القبلة فكبّر النبي صلى الله عليه وسلم وكبّرنا جميعاً ثم ركع وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحو العدو فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المتقدم ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ثم انحدر بالجسود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى فقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلّمنا قال جابر كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم أخرجه مسلم بتمامه وأخرجه البخاري طرفاً منه أنه صلّى الخوف مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوة السابقة غزوة ذات الرقاع‏.‏ وبهذا الحديث أخذ الشافعي ومن وافقه فيما إذا كان العدو في جهة القبلة‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ إذا اشتد الحرب والتحم القتال صلّوا رجالاً وركباناً يؤمنون بالركوع والسجود إلى أي جهة كانت هذا مذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة أنهم لا يصلّون في هذه الحالة فإذا أمنوا قضوا ما فاتهم من الصلاة ولصلاة الخوف صور أخر مذكورة في كتب الفقه وليس هذا موضعها والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم‏}‏ أي ولا إثم ولا حرج عليكم ‏{‏إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ رخص الله لهم في وضع السلاح في حال المطر وحال المرض لأن السلاح يثقل حمله في هاتين الحالتين ‏{‏وخذوا حذركم‏}‏ يعني راقبوا عدوكم ولا تغفلوا عنه أمرهم الله بالتحفظ والتحرز والاحتياط لئلا يتجرأ العدو عليهم قال ابن عباس‏:‏ نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه غزا بني محارب وبني أنمار فنزلوا ولا يرون من العدو أحداً فوضع الناس السلاح فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة حتى قطع الوادي والسماء ترش بالمطر فسال الوادي فحال السيل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه فجلس تحت شجرة فبصر به غورت بن الحارث المحابي فقال‏:‏ قتلني الله إن لم أقتله ثم انحدر من الجبل ومعه السيف ولم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائم على رأسه وقد سل السيف من غمده وقال يا محمد من يمنعك مني الآن‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«الله عز وجل» ثم قال اللهم أكفني غورث بن الحارث بما شئت فاهوى غورث ليضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم به فأكب لوجهه من زلخة زلخها فندر السيف من يده فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ السيف ثم قال «يا غورث من يمنعك مني الآن‏؟‏ فقال لا أحد فقال أتشهد أن لا إله إلاّ وأن محمداً عبده ورسوله وأعطيك سيفك فقال‏:‏ لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليك عدواً فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه فقال غورث لأنت خير مني فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجل أنا أحق بذلك منك» فرجع غورث إلى أصحابه فقالو له‏:‏ ويلك يا غورث ما منعك منه فقال والله لقد أهويت إليه بالسيف لأضربه به فوالله ما أدري من زلخني بين كتفي فخررت لوجهي وذكر حاله لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ وسكن الوادي فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلى أصحابه وأخبرهم الخبر وقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان عبدالرحمن بن عوف جريحاً فنزلت فيه أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم يعني من عدوكم ‏{‏إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏ يعني يهانون به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم الصلاة‏}‏ يعني فإذا فرغتم من صلاة الخوف ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ يعني بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وأثنوا على الله جميع أحوالكم ‏{‏قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم‏}‏ فإن ما أنتم عليه من الخوف جدير بالمواظبة على ذكر الله عز وجل والتضرع إليه ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه وقيل المراد بالذكر الصلاة يعني فصلّوا لله قياماً يعني في حال الصحة وقعوداً في حال المرض وعلى جنوبكم يعني في حال الزمانة والجراح ‏{‏فإذا اطمأننتم‏}‏ يعني فإذا أمنتم وسكنت قلوبكم‏.‏ وأصل الطمأنينة سكون القلب ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏ يعني فأتموها أربعاً فعلى هذا يكون المراد بالطمأنينة ترك السفر والمعنى فإذا صرتم مقيمين في أوطانكم فأقيموا الصلاة تامة أربعاً من غير قصر‏.‏ وقيل معناه فأقيموا الصلاة بإتمام ركوعها وسجودها فعلى هذا يكون المراد بالطمأنينة سكون القلب عن الاضطراب والأمن بعد الخوف ‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏ يعني فرضاً موقتاً والكتاب هنا بمعنى المكتوب يعني مكتوبة موقتة في أوقات محدودة فلا يجوز إخراجها عن أوقاتها على أي حال كان من خوف أو أمن وقيل معناه فرضاً واجباً مقدراً في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا في ابتغاء القوم‏}‏ سبب نزول هذه الآية أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا يوم أحد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فشكوا من ألم الجراحات فقال الله تعالى ولا تهنوا يعني ولا تضعفوا، ولا تتوانوا في ابتغاء القوم يعني في طلب أبي سفيان وأصحابه ثم أورد عليهم الحجة في ذلك وألزمهم بها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون‏}‏ يعني أن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم وليس ما تكابدون من الوجع وألم الجراح مختصاً لكم بل هم كذلك فإذا لم يكن الألم مانعاً لهم عن قتالكم فكيف يكون مانعاً لكم عن قتالهم وكيف لا تصبرون مثل صبرهم مع أنكم أولى بالصبر منهم لأنكم مقرون بالحشر والنشر والثواب والعقاب والمشركون لا يقرون بذلك كله فأنتم أيها المؤمنون أولى بالجهاد منهم وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وترجون من الله ما لا يرجون‏}‏ يعني وتأملون من الله من الثواب في الآخرة ما لا يرجعون وقيل ترجون النصر والظفر في الدنيا وإظهار دينكم على الأديان كلها ‏{‏وكان الله عليماً حكيماً‏}‏ يعني أنه تعالى لا يأمركم بشيء إلا وهو يعلم أنه مصلحة لكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 106‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق‏}‏ قال ابن عباس نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن إبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعاً من جار له يقال له قتادة بن النعمان وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له زيد بن السمين فالتمست الدرع عند طعمة فحلف بالله ما له بها من علم فقال أصحاب الدرع‏:‏ لقد رأينا اثر الدقيق حتى دخل داره فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فأخذوه فقال اليهودي‏:‏ دفعها إلي طعمة بن أبيرق زاد في الكشاف وشهد له جماعة من اليهود‏.‏ قال البغوي‏:‏ وجاء بنو ظفر قوم طعمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يجادل عن صاحبهم طعمة فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاقب اليهودي وأن يقطع يده فأنزل الله هذه الآية وقيل إن زيد بن السمين أودع الدرع عند طعمة فجحده طعمة الله فأنزل هذه الآية‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك‏}‏ يعني يا محمد الكتاب يعني القرآن بالحق يعني بالصدق وبالأمر والنهي والفصل ‏{‏لتحكم بين الناس بما أراك الله‏}‏ يعني بما علمك الله وأوحى إليكم وإنما سمي العلم اليقيني رؤية لأنه جرى مجرى الرؤية في قوة الظهور روي عن عمر أنه قال لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ولكن ليجهد رأيه لأن الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصيباً، لأن الله تعالى كان يريه إياه وإن رأي أحدنا يكون ظناً ولا يكون علماً قال المحققون دلت هذه الآية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يحكم إلا بالوحي الإلهي والنص المنزل عليه ‏{‏ولا تكن‏}‏ يعني يا محمد ‏{‏للخائنين خصيماً‏}‏ يعني ولا تكن لأجل الخائنين وهم قوم طعمة تخاصم عنهم وتجادل عن طعمة مدافعاً عنه ومعيناً له ‏{‏واستغفر الله‏}‏ يعني مما هممت به من معاقبة اليهودي وقيل من جدالك عن طعمة ‏{‏إن الله كان غفوراً‏}‏ يعني لذنوب عباده يسترها عليهم ويغفرها لهم ‏{‏رحيماً‏}‏ يعني بعباده المؤمنين‏.‏

فصل

وقد تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء وقالوا لو لم يقع من الرسول الله صلى الله عليه وسلم ذنب لما أُمر بالاستغفار والجواب عما تمسكوا به من وجوه‏:‏ أحدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل المنهي عنه في قوله ولا تكن للخائنين خصماً ولم يخاصم عن طعمة لما سأله قومه أن يذب عنه أن يلحق السرقة باليهودي فتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وانتظر ما يأتيه من الوحي السماوي والأمر الإلهي فنزلت هذه الاية وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن طعمة كذاب وأن اليهودي بريء من السرقة‏.‏

وإنما مال صلى الله عليه وسلم إلى نصرة طعمة وهمّ بذلك بسبب أنه في الظاهر من المسلمين فأمره الله بالاستغفار لهذا القدر‏.‏ الوجه الثاني أن قوم طعمة لما شهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة طعمة من السرقة ولم يظهر في الحال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوجب القدح في شهادتهم همّ بأن يقضي على اليهودي بالسرقة فلما أطلعه الله على كذب قوم طعمة عرف أنه لو وقع ذلك الأمر لكان خطأ في نفس الأمر فأمره الله بالاستغفار منه وإن كان معذوراً‏.‏ الوجه الثالث يحتمل أن الله تعالى أمره بالاستغفار لقوم طعمة لذبهم عن طعمة فإن استغفاره صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون لذنب قد سبق قبل النبوة وأن يكون لذنوب أمته‏.‏ الوجه الرابع أن درجة النبي صلى الله عليه وسلم أعلى درجات ومنصبه أشرف المناصب فلعلو درجته وشرف منصبه وكمال معرفته بالله عز وجل فما يقع منه على وجه التأويل أو السهو أو أمر من أمور الدنيا فإنه ذنب بالنسبة إلى منصبه صلى الله عليه وسلم كما قيل حسنات الأبرار سيئآت المقربين‏.‏ وذلك بالنسبة إلى منازلهم ودرجاتهم والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 110‏]‏

‏{‏وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏109‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏ يعني ولا تجادل يا محمد عن الذين يظلمون أنفسهم بالخيانة وهم طعمة ومن عاونه وذب عنه من قومهم وإنما سماهم خائنين لأن من أقدم على ذنب فقد خان نفسه لأنه أوقعها في العذاب وحرمها من الثواب ولهذا قيل لمن ظلم غيره إنما ظلم نفسه وقيل المراد بهذا الجمع كل من خان خيانة أي فلا تخاصم ولا تجادل عنه ‏{‏إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً‏}‏ يعني خواناً بسرقة الدرع أثيماً برميه اليهودي وهو بريء وإنما قال تعالى خواناً أثيماً على المبالغة لأنه تعالى علم من طعمة الإفراط في الخيانة وركوب المآثم‏.‏ ويدل على ذلك أنه لما نزل فيه القرآن لحق مكة مرتداً عن دينه ثم عدا على الحجاج بن علاط فنقب عليه بيته فسقط عليه حجر من الحائط فلما أصبحوا أخرجوه من مكة فلقي ركباً فعرض لهم‏.‏ وقال ابن السبيل ومنقطع به فحملوه حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ثم انطلق فركبوا في طلبه فأدركوه فرموه بالحجارة حتى مات، ومن كانت هذه حاله كان كثير الخيانة والإثم فلذلك وصفه الله تعالى بالمبالغة في الخيانة والإثم قال بعضهم إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات‏.‏ ويروى عن عمر أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه يا أمير المؤمنين فقال كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يستخفون من الناس‏}‏ يعني يستترون حياء من الناس يريد بذلك بني ظفر بن الحارث وهم قوم طعمة بن أبيرق ‏{‏ولا يستخفون من الله‏}‏ يعني ولا يستترون من الله ولا يستحيون منه وأصل الاستخفاء الاستتار وإنما فسر الاستخفاء بالاستحياء على المعنى لأن الاستحياء من الناس يوجب الاستتار منهم ‏{‏وهو معهم‏}‏ يعني والله معهم بالعلم والقدرة ولا يخفى عليه شيء من حالهم لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية‏.‏ وكفى بذلك زجراً للإنسان عن ارتكاب الذنوب ‏{‏إذ يبيتون ما لا يرضى من القول‏}‏ يعني يضمرون ويقدرون ويزورون في أذهانهم‏.‏ وأصل التبييت تديبر الفعل بالليل وذلك أن قوم طعمة قالوا فيما بينهم‏:‏ نرفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسمع قول طعمة ويقبل يمينه لأنه مسلم ولا يسمع قول اليهودي لأنه كافر فلم يرض الله تعالى بذلك منهم فأطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على سرهم وما هموا به ‏{‏وكان الله بما يعملون محيطاً‏}‏ يعني أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أسرار عباده وهو مطلع عليهم محيط بهم لا تخفى عليه خافيه ‏{‏ها أنتم هؤلاء‏}‏ ها للتنبيه يعني يا هؤلاء الذين هو خطاب لقوم من المؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وعن قومه ‏{‏جادلتم عنهم‏}‏ يعني خاصمتم عنهم بسبب أنهم كانوا يرونهم في الظاهر مسلمين وأصل الجدال شدة الفتل لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يفتل صاحبه عما هو عليه والمعنى هبوا إنكم خاصمتم وجادلتم عن طعمة وقومه في الحياة الدنيا وقيل هو خطاب لقوم طعمة وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ جادلتم عنه والمعنى هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة في الحياة الدنيا ‏{‏فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة‏}‏ يعني إذا أخذه بعذابه فهو استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع‏:‏ ‏{‏أمن يكون عليهم وكيلاً‏}‏ يعني محافظاً ومحامياً عنهم من بأس الله إذا نزل بهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه‏}‏ نزلت هذه الاية في ترغيب طعمة في التوبة وعرضها عليه‏.‏ وقيل نزلت في قومه الذين جادلوا عنه وقيل هي عامة في كل مسيء ومذنب لأن خصوص السبب لا يمنع من إطلاق الحكم ومعنى الآية ومن يعمل سوءاً يسيء به غيره كما فعل طعمة بالسرقة من قتادة وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن ذلك يكون في الأكثر إيصالاً للضرر إلى الغير أو يظلم نفسه يعني فيما يختص به من الحلف الكاذب ونحو ذلك‏.‏ وقيل معناه ومن يعمل سوءاً أي قبيحاً أو يظلم نفسه يرميه البريء وقيل السوء كل ما يأثم به الإنسان والظلم هو الشرك فما دونه ‏{‏ثم يستغفر الله‏}‏ يعني من ذنوبه ‏{‏يجد الله غفوراً رحيماً‏}‏ ففي هذه الآية دليل على حكمين‏:‏ أحدهما أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب الكبائر والصغائر لأن قوله ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه عم الكل‏.‏ والحكم الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أن مجرد الاستغفار كاف‏.‏ وقال بعضهم إنه مقيد بالتوبة لأنه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار على الذنوب

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 113‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏ومن يكسب إثماً‏}‏ يعني ومن يعمل ذنباً يأثم به ‏{‏فإنما يكسبه على نفسه‏}‏ يعني إنما يعود وبال كسبه عليه والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة فكأنه تعالى يقول يا أيها الإنسان إن الذنب الذي ارتكبته إنما عادت مضرته عليك فإني منزه عن الضر والنفع فأكثر من الاستغفار ولا تيأس من قبول التوبة فإني لغفار لمن تاب وهذه الآية نزلت في طعمة أيضاً ‏{‏وكان الله عليماً‏}‏ يعني بسارق الدرع ‏{‏حكيماً‏}‏ يعني إذا حكم عليه بالقطع وقيل معناه عليها بما في قلب عبده إقدامه على التوبة حكيماً تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب ويغفر له ويقبل توبته ‏{‏ومن يكسب خطيئة أو إثماً‏}‏ قيل إن الخطيئة هي الصغيرة منم الذنوب والإثم هو الكبيرة وقيل الخطيئة هي الذنب المختص بفاعله والإثم الذنب المتعدي إلى الغير وقيل إن الخطيئة هي سرقة الدرع والإثم هو يمينه الكاذبة ‏{‏ثم يرم به بريئاً‏}‏ يعني ثم يقذف بما جناه بريئاً منه وهو نسبة السرقة إلى اليهود ولم يسرق‏.‏ فإن قلت الخطيئة والإثم اثنان فكيف وحد الضمير في قوله ثم يرم به‏.‏ قلت معناه ثم يرم بأحد هذين المذكورين بريئاً وقيل معناه ثم يرم بهما فاكتفى بأحدهما عن الآخر وقيل إنه يعود الضمير إلى الإثم وحده لأنه أقرب مذكور وقيل إن الضمير يعود الى الكسب ومعناه ثم يرم بما سكب بريئاً ‏{‏فقد احتمل بهتاناً‏}‏ البهتان من البهت وهو الكذب الذي يتحير في عظمه ‏{‏وإثماً مبيناً‏}‏ يعني ذنباً بيناً لأنه بكسب الإثم آثم وبرميه البريء باهت فقد جمع بين الأمرين‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته‏}‏ هذه الآية متعلقة بقصة طعمة بن أبيرق وقومه حيث لبسوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صاحبهم‏.‏ فقوله تعالى فلولا فضل الله عليك يعني يا محمد بالنبوة ورحمته يعني بالعصمة وما أوحى إليك من الاطلاع على أسرارهم فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏لهمت طائفة منهم‏}‏ يعني من بني ظفر وهم قوم طعمة ‏{‏أن يضلوك‏}‏ يعني عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل وقيل معناه يخطئوك في الحكم ويلبسوا عليك الأمر حتى تدفع عن طعمة وذلك لأن قوم طعمة عرفوا أنه سارق ثم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفع عنه وينزهه عن السرقة ويرمي بها اليهودي ‏{‏وما يضلون إلاّ أنفسهم‏}‏ يعني أن وبال ذلك يرجع عليهم بسبب تعاونهم على الإثم وبشهادتهم له أنه بريء فهم لما قدموا على ذلك رجع وباله عليهم ‏{‏وما يضرونك من شيء‏}‏ يعني أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت فيه لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال وما خطر ببالك أن الأمر على خلاف ذلك وقيل معناه وما يضرونك من شيء في المستقبل فوعده الله إدامة العصمة وإنه لا يضره أحد ‏{‏وأنزل الله عليك الكتاب‏}‏ يعني القرآن ‏{‏والحكمة‏}‏ يعني القضاء بما يعني وأوجب بهما بناء الحكم على الظاهر فكيف يضرونك بإلقائك في الشبهات ‏{‏وعلمك ما لم تكن تعلم‏}‏ يعني من أحكام الشرع وأمور الدين وقيل علمك من علم الغيب ما لم تكن تعلم وقيل معناه وعلمك من خفيات الأمور وأطلعك على ضمائر القلوب وعلمك من أحوال المنافقين وكيدهم ما لم تكن تعلم ‏{‏وكان فضل الله عليك عظيماً‏}‏ يعني ولم يزل فضل الله عليك يا محمد عظيماً فاشكره على ما أولاك من إحسانه ومن عليك بنبوته وعلمك ما أنزل عليك من كتابه وحكمته وعصمك ممن حاول إضلالك فإن الله هو الذي تولاك بفضله وشملك بإحسانه وكفاك غائلة من أرادك بسوء ففي هذه الآية تنبيه من الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على ما حباه من ألطافه وما شمله من فضله وإحسانه ليقوم بواجب حقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا خير في كثير من نجواهم‏}‏ يعني من نجوى قوم طعمة وقيل هي عامة في جميع ما يتناجى الناس به والنجوى هي الإسرار في التدبير وقيل النجوى ما تفرد بتدبيره قوم سراً كان ذلك أو جهراً وناجيته ساررته وأصله أن يخلوا في نجوة من الأرض وقيل أصله من النجي والمعنى لا خير في كثير ما يدبرونه ويتناجون فيه ‏{‏إلاّ من أمر بصدقة‏}‏ يعني إلاّ في نجوى من أمر بصدقة وقيل معناه لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلاّ فيما كان من أعمال الخير وقيل هو استثناء منقطع تقديره لكن من أمر بصدقة وحث عليها ‏{‏أو معروف‏}‏ يعني أو أمر بطاعة الله وما يجيزه الشرع وأعمال البر كلها معروف لأن العقول تعرفها ‏{‏أو إصلاح بين الناس‏}‏ يعني الإصلاح بين المتباينين والمتخاصمين ليتراجعا إلى ما كانا فيه من الألفة والاجتماع على ما أذن الله فيه وأمر به‏.‏ عن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين وإن فساد ذات البين هي الحالقة» أخرجه الترمذي وأبو داود وقال الترمذي ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» ‏(‏خ‏)‏ عن سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «اذهبوا بنا نصلح بينهم» ‏(‏ق‏)‏ عن أم مكتوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين أو قال بين الناس فيقول خيراً أو ينمى خيراً» زاد مسلم في رواية قالت ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلاّ فيما في ثلاث‏:‏ يعني الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل وزوجته وحديث المرأة زوجها ‏{‏ومن يفعل ذلك‏}‏ يعني هذه الأشياء التي ذكرت ‏{‏ابتغاء مرضاة الله‏}‏ يعني طلب رضاه لأن الإنسان إذا فعل ذلك خالصاً لوجه الله نفعه وإن فعله رياء وسمعة لم ينفعه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما الأعمال بالنيات» الحديث ‏{‏فسوف نؤتيه‏}‏ يعني في الآخرة إذا فعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ‏{‏أجراً عظيماً‏}‏ لا حد له لأن الله سماه عظيماً وإذا كان كذلك فلا يعلم قدره إلاّ الله

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 116‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول‏}‏ نزلت في طعمة أيضاً وذلك أنه لما سرق وظهرت عليه السرقة خاف على نفسه القطع والفضيحة فهرب إلى مكة كافراً مرتداً عن الدين فأنزل الله عز وجل فيه‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول‏}‏ يعني يخالفه في التوحيد والإيمان وأصله من المشاقة وهي كون كل واحد منهما في شق غير شق الآخر ‏{‏من بعد ما تبين له الهدى‏}‏ أي وضح له التوحيد والحدود وظهر له صحة الإسلام وذلك لأن طعمة كان قد تبين له بما أنزل فيه وأظهر من سرقته ما يدل على صحة دين الإسلام فعادى الرسول صلى الله عليه وسلم وأظهر الشقاق ورجع عن الإسلام ‏{‏ويتبع غير سبيل المؤمنين‏}‏ يعني ويتبع غير طريق المؤمنين وما هم عليه من الإيمان وتبيع عبادة الأوثان ‏{‏نوله ما تولى‏}‏ أي نكله في الآخرة إلى ما تولى في الدنيا ونتركه وما اختار لنفسه ‏{‏ونصله جهنم‏}‏ يعني ونلزمه جهنم وأصله من الصلي وهو لزوم النار وقت الاستدفاء ‏{‏وساءت مصيراً‏}‏ يعني وبئس المرجع إلى النار‏.‏ وري أن الشافعي سئل عن آية من كتاب الله تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى استخرج هذه الآية وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويتبع غير سبيل المؤمنين‏}‏ وذلك لأن اتباع غير سبيل المؤمنين وهي مفارقة الجماعة حرام فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين ولزوم وجماعتهم واجباً وذلك لأن الله تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين فثبت بهذا أن إجماع الأمة حجة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏ نزلت في طعمة بن أبيرق لكونه مات مشركاً وقال ابن عباس نزلت هذه الآية في شيخ من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا نبي الله إني شيخ منهمك في الذنوب غير أني لم أشرك بالله منذ عرفته وآمنت به ولم اتخذ مند دونه ولياً ولم أواقع المعاصي جراءة على الله عز وجل وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هرباً وإني لنادم تائب مستغفر فما حالي عندا الله فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏ فهذا نص صريح بأن الشرك غير مغفور إذا مات صاحبه عليه لأنه قد ثبت ان المشرك إذا تاب من شركه وآمن قبلت توبته وصح إيمانه وغفرت ذنوبه كلها التي عملها في حال الشرك ‏{‏ويغفر ما دون ذلك‏}‏ يعني ما دون الشرك ‏{‏لمن يشاء‏}‏ يعني لمن يشاء من أهل التوحيد قال العلماء لما أخبر الله أنه يغفر الشرك بالإيمان والتوبة علمنا أنه يغفر ما دون الشرك بالتوبة وهذه المشيئة فيمن لم يتب من ذنوبة من أهل التوحيد فإذا مات صاحبه الكبيرة أو الصغيرة من غير توبة فهو على خطر المشيئة إن شاء غفر له وأدخله الجنة بفضله ورحمته وإن شاء عذبه ثم يدخله الجنة بعد ذلك ‏{‏ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً‏}‏ يعني فقد ذهب عن طريق الهدى وحرم الخير كله إذا مات على شركه فإن قلت لم كررت هذه الآية بلفظ واحد في موضعين من هذه السورة وما فأئدة ذلك‏.‏ قلت فائدة ذلك التأكيد أو لأن الآية المتقدمة نزلت في سبب‏.‏ ونزلت هذه الآية في سبب آخر وهو أن الآية المتقدمة نزلت في سبب سرقة طعمة بن أبيرق ونزلت هذه الآية في سبب ارتداده وموته على الشرك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 119‏]‏

‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً‏}‏ نزلت في أهل مكة يعني ما يعبدون من دون الله إلاّ إناثاً لأن كل من عبد شيئاً فقد دعاه لحاجته وفي قوله إناثاً أقوال أحدها إنهم كانوا يسمون أصنامهم بأسماء الإناث فيقولون اللات والعزى ومناة قال الحسن كانوا يقولون لصنم كل قبيلة أنثى بني فلان والقول الثاني إناثاً يعني أمواتاً‏.‏ قال الحسن‏:‏ كل شيء لا روح فيه كالحجر والخشبة هو إناث قال الزجاج والموات كلها يخبر عنها كما يخبر من المؤنث تقول هذه الحجر تعجبني وهذه الدراهم تنفعني‏.‏ ولأن الأنثى أنزل درجة من الذكر والميت أنزل درجة من الحي كما أن الموت أنزل من الحيوان وقد يطلق اسم الأنثى على الجمادات والقول الثالث إن بعضهم كان يعبد الملائكة ويقول هن بنات الله ‏{‏وإن يدعون‏}‏ أي وما يعبدوا ‏{‏إلاّ شيطاناً مريداً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لكل صنم شيطان يدخل في جوفه ويتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم فلذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يدعون إلاّ شيطاناً مريداً‏}‏ وقيل هو إبليس لأنه أغواهم وأغراهم على عبادتها وأطاعوه فجعلت طاعتهم له عبادة والمريد والمارد هو المتمرد العاتي الخارج عن الطاعة ‏{‏لعنة الله‏}‏ أي أبعده الله وطرده عن رحمته ‏{‏وقال‏}‏ يعني إبليس ‏{‏لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً‏}‏ يعني حظاً مقدراً معلوماً فكل ما أطيع فيه إبليس فهو نصيبه ومفروضه وأصل الفرض القطع وهذا النصيب هم الذين يبتعون خطواته ويقبلون وساوسه ‏{‏ولأضلنهم‏}‏ عن طريق الحق والمراد به التزيين والوسوسة وإلاّ فليس إليه من الإضلال شيء‏.‏ قال بعضهم لو كانت الضلالة إلى إبليس لأضل جميع الخلق ‏{‏ولأمنينهم‏}‏ قال ابن عباس يريد تسويف التوبة وتأخيرها وقال الكلبي أمنيهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وقيل أمنيهم إدراك الجنة مع عمل المعاصي وقيل أزين لهم ركوب الأهواء والأهوال الداعية إلى العصيان وقيل أمنيهم طول البقاء في الدنيا ونعيمها ليؤثروها على الآخرة ‏{‏ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام‏}‏ يعني يقطعونها ويشقونها وهي البحيرة‏.‏ وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكراً وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ولا يردونها عن ماء ولا مرعى وسول لهم إبليس إن هذا قربة ‏{‏ولآمرنهم فليغيرن خلق الله‏}‏ قال ابن عباس يعني دين وتغيير الله هو تحليل الحرام وتحريم الحلال وقيل تغيير خلق الله هو تغيير الفطرة التي فطر الخلق عليها ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» وقيل يحتمل أن يحمل هذا التغيير على تغيير أحوال تتعلق بظاهر الخلق مثل الوشم ووصل الشعر ويدل عليه صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله» أخرجاه من رواية ابن مسعود ولهما عن أسماء قالت‏:‏ «لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة» وقيل تغيير خلق الله هو الاختصاء وقطع الآذان حتى إن بعض العلماء حرمه‏.‏ وكره أنس إخصاء الغنم وجوز بعض العلماء لأن فيه غرضاً ظاهراً ‏(‏ق‏)‏ عن سعد بن أبي وقاص قال لولا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رد على عثمان بن مظعون التبتل لاختصينا‏.‏ التبتل‏:‏ هو ترك النكاح والانقطاع للعبادة عن نافع قال كان ابن عمر يكره الاختصاء ويقول إن فيه نماء الخلق أخرجه مالك في الموطأ ومعناه في ترك الاختصاء نماء الخلق يعني زيادتهم‏.‏ وقال ابن زيد هو التخنث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن ونحو ذلك‏.‏ وقيل تغيير خلق الله هو أن الله تعالى خلق البهائم والأنعمام للركوب والأكل فحرموها على أنفسهم وخلق الشمس والقمر والنجوم والنار والأحجار لمنفعة الناس فعبدوها من الله ‏{‏ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله‏}‏ يعني يتخذه رباً يطيعه فيما يأمره به وقيل الولي من الموالاة وهو الناصر ‏{‏فقد خسر خسراناً مبيناً‏}‏ لأن طاعة الشيطان توصله إلى نار جهنم وهي غاية الخسران، بقي في الآية سؤالان‏:‏ الأول قال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً والنصيب المفروض هو الشيء المقدر القليل وقال في موضع آخر لأحتنكن ذريته إلاّ قليلاً وقال‏:‏ لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين‏.‏ وهذا استثناء القليل من الكثير فكيف وجه الجمع فالجواب أن الكفار الذين هم حزب الشيطان وإن كانوا أكثر من المسلمين في العدد لكنهم أقل من المؤمنين في الفضل والشرف وعلو الدرجة عند الله والمؤمنون وإن كانوا أقل من الكفار لكنهم اكثر منهم لأن الفضل والشرف والسؤدد والغلبة في الدنيا وعلو الدرجة في الآخرة وأنشد بعضهم في هذا المعنى قال‏:‏

وهم الأقل إذا تعد عشيرة *** والأكثرون إذا يعد السؤدد

وقيل إن إبليس لما لم ينل من آدم ما أراد ورأى الجنة والنار وعلم أن لهذه أهلاً ولهذه أهلاً قال‏:‏ لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً يعني الذين هم أهل النار‏.‏ السؤال الثاني‏:‏ من أين لإبليس العلم بالعواقب حتى يقول ولأضلنهم ولأغوينهم ولأمنينهم ولآمرنهم، وقال في الاعراف ‏{‏ولا تجد أكثرهم شاكرين‏}‏ وقال في بني إسرائل ‏{‏لأحتنكن ذريته إلا قليلاً‏}‏ فالجواب من ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن إبليس ظن أن تقع منهم هذه الأمور التي يريدها منهم فحصل له ما ظنه ويدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه‏}‏ الوجه الثاني‏:‏ قال ابن الأنباري المعنى لأجتهدن ولأحرصن في ذلك أنه كان يعلم الغيب‏.‏ الوجه الثالث‏:‏ قال الماوردي من الجائز أن يكون قد علم ذلك من الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلائق لا يؤمنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 123‏]‏

‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ‏(‏122‏)‏ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏123‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعدهم ويمنيهم‏}‏ يعني الشيطان يعد حزبه وأولياءه ويمنهم فوعده وتمنيته إياهم ما يوقع في قلب الإنسان من طول العمر ونيل ما أراد من الدنيا ومن نعيمها ولذاتها وكل ذلك غرور فيجب على العاقل أن لا يلتفت إلى شيء منها فربما لم يطل عمره ولم يحصل له ما أراد منها ولئن طال عمره وحصل مقصوده فالموت وراءه ينغص عليه ما هو فيه وقيل يعدهم ويمنيهم بأن لا جنة ولا نار ولا بعث فاجتهدوا في تحصيل اللذات الدنيوية ‏{‏وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏ يعني باطلاً وضلالاً ‏{‏أولئك‏}‏ يعني الذين اتخذوا الشيطان ولياً ‏{‏مأواهم جهنم‏}‏ يعني مرجعهم ومستقرهم جهنم ‏{‏ولا يجدون عنها‏}‏ يعني عن جهنم ‏{‏محيصاً‏}‏ يعني مفراً ومعدلاً يعني لا يعدلون عنها إلى غيرها ولا بد لهم من ورودها والخلد فيها ولما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد المؤمنين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ يعني من تحت المساكن والغرف ‏{‏خالدين فيها‏}‏ يعني في الجنات ‏{‏أبداً‏}‏ بلا انتهاء ولا غاية والأبد عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا انقطاع له ولا يتجزأ كما يتجزأ غيره من الأزمنة لأنه لا يقال أبد كذا كما يقال زمن كذا وفي قوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها أبداً‏}‏ دليل على أن الخلود لا يفيد التأبيد والدوام لأنه لو أفاد ذلك لزم التكرار وهو خلاف الأصل فعلم من ذلك أن الخلود عبارة عن طول الزمان لا على الدوام فلما أتبع الخلود بالأبد علم أنه يراد به الدوام الذي لا ينقطع‏.‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وعد الله حقاً‏}‏ يعني وعد الله ذلك الذي ذكر وعدا حقاً ‏{‏ومن أصدق من الله قيلاً‏}‏ يعني ليس أحد أصدق من الله وهو توكيد بليغ لقوله‏:‏ ‏{‏وعد الله حقاً‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب‏}‏ قولان‏:‏ أحدهما أنه خطاب للمسلمين وأهل الكتاب اليهود والنصارى وذلك أنهم افتخروا فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم‏.‏ وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى بالله منكم‏.‏ والقول الثاني أنه خطاب لمشركي مكة في قولهم لانبعث ولا نحاسب وخطاب لأهل الكتاب في قولهم لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة‏.‏ والمعنى ليس الأمر بالأماني إنما الأمر بالعمل الصالح ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ قال الضحاك يقول‏:‏ ليس لكم ما تمنيتم وليس لأهل الكتاب ما تمنوا ولكن من عمل سوءاً يعني شركاً فمات عليه يجز به النار‏.‏ وقال الحسن هذا في حق الكفار خاصة لأنهم يجازون بالعقاب على الصغير والكبير ولا يجزى المؤمن بسيئ عمله يوم القيامة ولكن يجزى بأحسن عمله ويتجاوز عن سيئاته ويدل على صحة هذا القول سياق الاية وهو قوله‏:‏ ‏{‏ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً‏}‏ وهذا هو الكافر، فأما المؤمن فله ولي ونصير‏.‏

وقال آخرون هذه الاية في حق كل من عمل سوءاً من مسلم ونصراني وكافر‏.‏ قال ابن عباس هي عامة في حق كل من عمل سوءاً يجز به إلا أن يتوب قبل أن يموت فيتوب الله عليه‏.‏ وقال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه لما نزلت هذه الاية شقت على المسلمين مشقة شديدة وقالوا يا رسول الله وأينا من لم يعمل سوءاً غيرك فكيف الجزاء‏؟‏ قال «منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشر حسناته وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت آحاده أعشاره‏.‏ وأما من كان جزاؤه في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة فيؤتى كل ذي فضل فضله» ويدل على صحة هذا القول ما روي عن أبي هريرة قال لما نزلت ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها» أخرجه مسلم وعن أبي بكر الصديق قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ قلت بلى يا رسول الله قال فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقساماً في ظهري فتمطيت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شانك يا أبا بكر‏؟‏ قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءاً وإنا لمجزيون بأعمالنا» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس عليكم ذنوب‏.‏ وأما الآخرون فيجتمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وفي إسناده مقال وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد ولياً يمنعه ولا نصيراً ينصره فإن قلنا إن هذه الآية خاصة في حق كفار فتأويلها ظاهر وإن قلنا إنها في حق كل عامل سوء من مسلم وكافر فإنه لا ولي لأحد من دون الله يوم القيامة ولا ناصر‏.‏ فالمؤمنون لا ولي لهم غير الله وشفاعة الشافعين تكون بإذن الله فليس يمنع أحداً أحداً عن الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ‏(‏124‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن‏}‏ قال مسروق لما نزلت من يعمل سوءاً يجز به قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت هذه الآية قال المفسرون بيّن الله تعالى بهذه الآية فضيلة المؤمنين على غيرهم ولفظه من في قوله من الصالحات للتبعيض، لأن أحداً لا يقدر أن يستوعب جميع الصالحات بالعمل فإذا عمل بعضها استحق الثواب ‏{‏فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً‏}‏ النقير نقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة قال ابن عباس يريد لا ينقصون قدر نقرة النواة وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ‏(‏125‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن‏}‏ لما بيّن الله تعالى أن الجنة لمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن شرح الإيمان وبين فضله فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أحسن ديناً‏}‏ يعني ومن أحكم ديناً والدين هو المشتمل على كمال العبودية والخضوع والانقياد لله عز وجل وهو الذي كان عليه إبراهيم صلى الله عليه وسلم‏.‏ واعلم أن دين الإسلام مبني على أمرين‏:‏ أحدهما الاعتقاد وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أسلم وجهه لله‏}‏ يعني انقاد لله وخضع له في سره وعلانيته وقيل معناه أخلص طاعته لله وقيل فوض أمره إلى الله‏.‏ الأمر الثاني من مباني الإسلام العمل وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وهو محسن‏}‏ يعني في عمله لله فيدخل فيه فعل الحسنات والمفروضات والطاعات وترك السيئات وقال ابن عباس في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏وهو محسن‏}‏ يريد وهو موحد لله عز وجل لا يشرك به شيئاً قال العلماء وإنما صار دين الإسلام أحسن الأديان لأنه فيه طاعة الله ورضاه وهما أحسن الأعمال‏.‏ وإنما خص الوجه بالذكر في قوله‏:‏ ‏{‏أسلم وجهه لله‏}‏ لأنه أشرف الأعضاء فإذا انقاد الوجه لله وخضع له فقد انقاد جميع الأعضاء لأنها تابعة له ‏{‏واتبع ملة إبراهيم‏}‏ يعني دين إبراهيم عليه السلام ‏{‏حنيفاً‏}‏ يعني مسلماً مخلصاً والحنيف المائل ومعناه المائل عن الأديان كلها إلى الإسلام لأن كل ما سواه من الأديان باطل وحنيفاً يجوز أن يكون حالاً لإبراهيم ويجوز أن يكون حالاً للمتبع كما تقول رأيته راكباً‏.‏ قال ابن عباس ومن دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة والطواف ومناسك الحج والختان هو نحو ذلك‏.‏ فإن قلت ظاهر هذه الاية يقتضي أن شرع محمد صلى الله عليه وسلم هو نفس شرع إبراهيم عليه السلام وعلى هذا لم يكن لمحمد صلى الله عليه وسلم شرع يستقل به وليس الأمر كذلك فما الجواب‏؟‏ قلت إن شرع إبراهيم وملته داخلان في شرع محمد صلى الله عليه وسلم وملته مع زيادات كثيرة حسنة خص الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم فمن اتبع ملة محمد صلى الله عليه وسلم فقد اتبع ملة إبراهيم لأنها داخلة في ملة محمد صلى الله عليه وسلم وشرع إبراهيم داخل في شرع محمد صلى الله عليه وسلم وإنما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتبع ملة إبراهيم‏}‏ لأن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يدعو إلى توحيد الله وعبادته ولهذا خصه بالذكر لأنه كان مقبولاً عند جميع الأمم فإن العرب كانوا يفتخرون بالانتساب إليه وكذا اليهود والنصارى‏.‏ فإذا ثبت هذا وأن شرعه كان مقبولاً عند الأمم وأن شرع محمد صلى الله عليه وسلم وملته هو شرع إبراهيم وملته لزم الخلق الدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وقبول شرعه وملته‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذ الله إبراهيم خليلاً‏}‏ يعني صفياً والخلة صفاء المودة وقيل الخلة الافتقار والانقطاع فخليل الله المنقطع إليه وسمي إبراهيم خليلاً لأنه انقطع إلى الله في كل حال‏.‏ وقيل الخلة الاختصاص والاصطفاء وسمي إبراهيم خليلاً لأنه والى في الله وعادى في الله وقيل لأنه تخلّق بأخلاق حسنة وخلالٍ كريمة وقيل الخليل المحب الذي ليس في محبته خلل وسمي إبراهيم خليل الله لأنه أحبه محبة كاملة ليس فيها نقص ولا خلل وأنشد في معنى الخلة التي هي بمعنى المحبة‏:‏

قد تخللت مسلك الروح مني *** وبه سمي الخليل خليلا

وقيل الخليل من الخلة الخاء وهي الحاجة سميت خلة للاختلال الذي يلحق الإنسان فيها وسمي إبراهيم خليلاً لأنه جعل فقره وفاقته وحاجته إلى الله تعالى‏.‏ وخلة الله للعبد هي تمكينه من طاعته وعصمته وتوفيقه وستر خلله ونصره والثناء عليه فقد أثنى الله عز وجل على إبراهيم عليه السلام وجعله إماماً للناس يقتدى به‏.‏ واختلفوا في السبب الذي من أجله اتخذ الله إبراهيم خليلاً فقال ابن عباس كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم أبا الضيفان وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس فأصاب الناس شدة قحط فقصد الناس باب إبراهيم يطلبون منه الطعام، وكانت الميرة تأتيه من صديق له بمصر فبعث إبراهيم غلمانه إلى خليله الذي بمصر فقال خليله لغلمان إبراهيم لو كان إبراهيم يريد إنماء الطعام لنفسه احتملنا ذلك له وقد دخل علينا مثل ما دخل على الناس من الشدة فرجع غلمان إبراهيم بغير طعام فمروا ببطحاء من الرمل سهلة فقالوا لو حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس من الشدة فرجع غلمان إبراهيم بغير طعام فمروا ببطحاء من الرمل سهلة فقالوا لو حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بالميرة فإنا نستحي أن نمر بهم وإبلنا فارغة فملؤوا من ذلك الرمل الغرائر التي معهم ثم أتوا إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فأعلموه وسارة نائمة فاهتم لذلك لمكان الناس ببابه فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار فقالت سبحان الله ما جاء الغلمان قالوا بلى قالت فجاؤوا بشيء قالوا نعم فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هي ملأى بأجود دقيق يكون حواري فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس فاستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام فقال يا سارة من أين لكم هذا‏؟‏ فقالت من عند خليلك المصري فقال هذا من عند خليلي الله قال فيومئذ اتخذه الله خليلاً وقيل لما أراه الله ملكوت السموات والأرض وحاج قومه في الله ودعاهم إلى توحيده ومنعهم من عبادة النجوم النجوم والشمس والقمر والأوثان وبذل نفسه للإلقاء في النيران وبذل ولده للقربان وماله للضيفان اتخذه الله خليلاً وجعله إماماً للناس يقتدي به وجعل النبوة فيه وفي ذريته وقيل إن إبراهيم عليه السلام لما كسر الأصنام وعادى قومه في الله عز وجل اتخذه الله خليلاً وقيل لما دخل عليه الملائكة فظنهم ضيفاً فقرب إليهم عجلاً مشوياً وقال كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره فقال جبريل أنت خليل الله فمن يومئذ سمي إبراهيم خليل الله ‏(‏م‏)‏ عن أنس قال‏:‏

«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا خير البرية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إبراهيم خليل الله»‏.‏

فصل

وقد اتخذ الله محمداً خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً فقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لو كنت متخذاً كما اتخذ خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً» وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلاً» أخرجه مسلم؛ فقد ثبت بهذين الحديثين الخلة للنبي صلى الله عليه وسلم وزاد على إبراهيم عليه السلام بالمحبة صلى الله عليه وسلم خليل الله وحبيبه فقد جاء في حديث عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ألا وأنا حبيب الله ولا فخر» أخرجه الترمذي بأطول منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 127‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ‏(‏126‏)‏ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ‏(‏127‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ قال أهل المعاني‏:‏ لما دعا الله الخلق إلى طاعته وعبادته والانقياد لأمره بيّن سعة ملكه ليرغب الخلق إليه بالطاعة له‏.‏ وإنما قال ما في السموات وما في الأرض ولم يقل من لأنه ذهب به مذهب الجنس والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنس ذكر بلفظه ما ‏{‏وكان الله بكل شيء محيطاً‏}‏ يعني عالماً علم إحاطة وهو العلم بالشيء من كل وجه حتى لا يشذ عنه نوع إلا علمه وقيل يجوز أن يكون معناه محيطاً بالقدرة عليه‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن‏}‏ الاية‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في بنات أم كحة وقد تقدمت قصتهن في أول السورة وقالت عائشة هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سنّة صداقها وإذا كانت غير مرغوب فيها لقلة الجمال والمال تركها، وفي رواية قالت هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وقد شركته في ماله فيرغب عنها فلا يتزوجها لدمامتها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه ويشركه في ماله فيجسها حتى تموت فنهاهم الله عن ذلك وأنزل هذه الاية فقال ويستفتونك يعني ويستخبرونك يا محمد في شأن النساء وحالهن والاستفتاء طلب الفتوى وهو إظهار ما أشكل من الأحكام الشرعية وكشفه وتبيينه قال المفسرون والذي استفتوه فيه هو ميراث النساء وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد فلما نزلت آية الميراث قالوا‏:‏ يا رسول الله كيف ترث المرأة والصغير‏؟‏ فأجابهم بهذه الاية‏:‏ ‏{‏قل الله يفتيكم فيهن‏}‏ يعني قل يا محمد الله يفتيكم في النساء بما أنزل في كتابه عليكم وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ والغرض منه تعظيم حال هذه الآية التي تتلى عليكم وأنها في اللوح المحفوظ وأن العدل والإنصاف في حقوق اليتامى من أعظم الأمور عند الله تعالى التي تجب مراعاتها وأن المخل بها ظالم ‏{‏في يتامى النساء‏}‏ قيل معناه في النساء اليتامى وقيل في اليتامى أولاد النساء، لأن الاية نزلت في يتامى أم كحة ‏{‏اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن‏}‏ يعني ما فرض لهن من الميراث وهذا على قول من يقول إن الآية نازلة في ميراث اليتامى والصغار وعلى القول الآخر معناه ما كتب لهن من الصداق ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ يعني وترغبون في نكاحهن لمالهن وجمالهن بأقل من صداقهن وقيل معناه وترغبون عن نكاحهن لقبحهن ودمامتهن وتمسكوهن رغبة في أموالهن ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة قالت هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينقص صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن قالت عائشة رضي الله عنها فاستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يستفتونك في النساء‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ فبين لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يحلقوها بسنتها في إكمال الصداق وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها قال فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمستضعفين من الولدان‏}‏ يعني ويفتيكم في المستضعفين من الولدان وهم الصغار أن تعطوهم حقوقهم لأن العرب في الجاهلية كانوا لا يورثون الصغار أيضاً فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم أن يعطوهم حقهم من الميراث ‏{‏وأن تقوموا لليتامى بالقسط‏}‏ يعني بالعدل في مهورهن ومواريثهن ‏{‏وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليماً‏}‏ يعني فيجازيكم عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏128‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ قالت نزلت في المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج غيرها فنقول له امسكني لا تطلقني ثم تزوج غيري وأنت في حل من النفقة عليّ والقسمة لي قالت فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحاً والصلح خير‏}‏ وقيل نزلت في عمرة بنت محمد بن مسلمة ويقال اسمها خولة وفي زوجها سعد بن الربيع ويقال له رافع بن خديج تزوجها وهي شابة فلما كبرت تزوج عليها امرأة أخرى شابة وآثرها عليها وجفا الأولى فأتت ابنة محمد بن مسلمة تشكو زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية‏.‏ وقيل كان رجل له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوج غيرها فقالت لا تطلقني ودعني أقوم على أولادي واقسم لي كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسم لي فقال إن كان يصلح ذلك فهو أحب إليّ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت‏}‏ يعني علمت وقيل ظنت وقيل بل المراد نفس الخوف لأن الخوف لا يحصل إلا عند ظهور الأمارات الدالة على وقوعه من بعلها يعني من زوجها‏.‏ والبعل هو السيد وسمي الزوج بعلاً لأنه سيد المرأة‏.‏ نشوزاً يعني بغضاً وقيل هو ترك مضاجعتها وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض والنشوز قد يكون من الزوجين وهو أن يكره كل واحد منهما صاحبه فنشوز الزوج هو أن يعرض عن المرأة‏.‏ وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو إعراضاً‏}‏ يعني بوجهه عنها أو يعبس في وجهها او يترك مضاجعتها أو يسيء عشرتها أو يشتغل بغيرها وقيل المراد من النشوز إظهار الخشونة في القول والفعل والمراد من الإعراض السكوت عن الخير والشر والإيذاء بل يعرض عنها بوجهه أو يشتغل بغيرها ‏{‏فلا جناح عليهما‏}‏ يعني فلا حرج ولا إثم على الزوج والمرأة ‏{‏أن يصلحا‏}‏ من المصالحة، وقرئ أن يصلحا بضم الياء وكسر اللام من الإصلاح ‏{‏بينهما صلحاً‏}‏ يعني في القسمة والنفقة وهو أن يقول الزوج للمرأة‏:‏ إنك قد كبرت ودخلت في السن، وأنا أريد ان أتزوج امرأة جميلة شابة أوثرها عليك في القسمة ليلاً ونهاراً فإن رضيت فأقيمي وإن كرهت ذلك فارقتك وخليت سبيلك فإن رضيت بذلك كانت هي المحسنة ولا تجبر على ذلك وأن لم ترض بدون حقها كان على الزوج أن يوفيها حقها من القسم والنفقة أو يسرحها بإحسان وإن أمسكها ووفاها حقها مع الكراهة لها كان هو المحسن قال ابن عباس‏:‏ فإن صالحته على بعض حقها من القسمة والنفقة جاز وإن أنكرت ذلك بعد الصلح كان ذلك لها ولها حقها ‏{‏والصلح خير‏}‏ يعني إقامتها بعد تخييره إياها والمصالحة على ترك بعض حقها من القسم والنفقة خير من الفرقة عن ابن عباس قال‏:‏ «خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت ‏{‏فلا جناح عليهما أن يصالحها بينهما صلحاً والصلح خير‏}‏ فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة ‏{‏وأحرضت الأنفس الشح‏}‏ الشح أقبح البخل، وحقيقته الحرص على من الخير، وإنما قال‏:‏ وأحضرت الأنفس الشح لأنه كالأمر اللازم للنفوس لأنه مطبوعة عليه، ومعنى الآية أن كل واحد من الزوجين يشح بنصيبه من الآخر فالمرأة تشح على مكانها من زوجها والرجل يشح عليها بنفسه إذا كان غيرها أحب إليه منها ‏{‏وإن تحسنوا وتتقوا‏}‏ هذا خطاب للأزواج يعني وإن تحسنوا أيها الأزواج الصحبة والعشرة وتتقوا الله في حق المرأة فإنها أمانة عندكم وقيل معناه وإن تحسنوا بالإقامة معها على الكراهة وتقتوا ظلمها والجور عليها‏.‏ ‏{‏فإن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ يعني فيجازيكم بأعمالكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏129- 130‏]‏

‏{‏وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏129‏)‏ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‏(‏130‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء‏}‏ يعني ولن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب وميل القلب لأن ذلك مما لا تقدرون عليه وليس من كسبكم ‏{‏ولو حرصتم‏}‏ يعني على العدل والتسوية بينهن وقيل معناه ولو حرصتم على ذلك ‏{‏فلا تميلوا كل الميل‏}‏ يعني إلى التي تحبونها في القسم والنفقة والمعنى أنكم لستم منهيين عن حصول التفاوت في الميل القلبي لأن ذلك خارج عن قدرتكم ووسعكم ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك الميل في القول والفعل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط» أخرجه الترمذي وعند أبي داود «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» وعن عائشة قالت‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيقول» اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب «أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتذروها كالمعلقة‏}‏ يعني فتدعوا الأخرى التي لا تميلون إليها كالمعلقة لا أيماً ولا ذات بعل كالشيء المعلق لا هو في السماء ولا على الأرض‏.‏ وقيل معناه فتذروها كالمسجونة لا هي مخلصة فتتزوج ولا هي ذات بعل فيحسن إليها ‏{‏وإن تصلحوا‏}‏ يعني بالعدل في القسم ‏{‏وتتقوا‏}‏ يعني الجور في القسم ‏{‏فإن الله كان غفوراً‏}‏ يعني لما حصل من الميل إلى بعضهن دون بعض ‏{‏رحيماً‏}‏ يعني بكم حيث لم يكلفكم ما لا تقدرون عليه ‏{‏وإن يتفرقا‏}‏ يعني إن لم يصطلحا وأرادا الفرقة ‏{‏يغن الله كلاًّ من سعته‏}‏ يعني من فضله ورزقه والمعنى يغني الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج آخر‏.‏ وقيل معناه يعوض الزوج بما يحب والمرأة بما تحب ويوسع عليهما وفي هذا تسلية لكل واحد من الزوجين بعد الطلاق ‏{‏وكان الله واسعاً‏}‏ يعني واسع الفضل والرحمة وقيل واسع القدرة والعلم والرزق وقيل هو الغني الذي وسع جميع مخلوقاته غناه ‏{‏حكيماً‏}‏ يعني فيما أمر به ونهى عنه‏.‏

فصل فيما يتعلق بحكم الآية

وجملته أن الرجل إذا كان تحته امرأتان أو أكثر يجب عليه التسوية بينهن في القسم فإن ترك التسوية بينهن في فعل القسم عصى الله عز وجل في ذلك وعليه القضاء للمظلومة والتسوية شرك في البيتوتة أما في الجماع فلا لأن ذلك يدور النشاط وميل القلب وليس ذلك إليه ولو كان في نكاحه حرة وأمة قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة واحدة‏.‏ وإذا تزوج جديدة على قديمات كن عنده فإنه يخص الجديدة بأن يبيت عندها سبع ليال إن كانت الجديدة بكراً وإن كانت ثيباً خصها بثلاث ليال ثم إنه يستأنف القسم ويسوي بينهن ولا يجب عليه قضاء عوض هذه الليالي للقديمات ويدل على ذلك ما روى أبو قلابة عن أنس قال‏:‏» من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً وقسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً وقسم «قال أبو قلابة ولو شئت لقلت إن أنساً رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرجاه في الصحيحين‏.‏

وإذا سافر الرجل إلى سفر حاجة جاز له أن يحمل معه بعض نسائه بشرط أن يقرع بينهن ولا يجب عليه أن يقضي للباقيات عوض مدة سفره وإن طالت إذا لم يزد مقامه في البلد على مدة المسافرين ويدل على ذلك ما روي عن عائشة قالت‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه»‏.‏ أخرجه البخاري مع زيادة فيه‏.‏ وإذا أراد الرجل سفر نقلة وجب عليه أخذ نسائه معه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏131- 133‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ‏(‏131‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏132‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ‏(‏133‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ يعني عبيداً وملكاً قال أهل المعاني لما ذكر الله تعالى أن يغني من سعته وفضله أشار إلى ما يوجب الرغبة إليه في طلب الخير منه لأن من ملك السموات والأرض لا تفنى خزائنه ‏{‏ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ يعني من اليهود والنصارى وأصحاب الكتب القديمة ‏{‏وإياكم‏}‏ يعني ووصيناكم يا أهل القرآن في كتابكم ‏{‏أن اتقوا الله‏}‏ أي بأن تتقوا الله وهو أن توحدوه وتطيعوه وتحذروه ولا تخالفوا أمره والمعنى أن الأمر بتقوى الله شريعة قديمة أوصى الله بها جميع الأمم السالفة في كتبهم ‏{‏وإن تكفروا‏}‏ يعني وإن تجحدوا ما أوصاكم به ‏{‏فإن لله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ يعني فإن لله ملائكة في السموات والأرض هم أطوع له منكم‏.‏ وقيل معناه أن الله خالق السموات والأرض وما فيه ومالكهن، والمنعم عليهم بأصناف النعم ومن كان كذلك فحق لكل أحد أن يتقيه ويرجوه ‏{‏وكان الله غنياً‏}‏ يعني عن جميع خلقه غير محتاج إليهم ولا إلى طاعتهم ‏{‏حميداً‏}‏ يعني محموداً على نعمه عليهم ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً‏}‏ قال ابن عباس يعني شهيداً على أن له فيهن عبيداً وقيل معناه وكفى بالله دافعاً ومجيراً‏.‏ فإن قلت ما الفائدة في تكرير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ قلت الفائدة في ذلك أن لكل آية معنى تخص به، أما الآية الأولى فمعناها فإن لله ما في السموات وما في الأرض وهو يوصيكم بتقوى الله فاقبلوا وصيته وقيل لما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته‏}‏ بيّن أن له ما في السموات وما في الأرض وأنه قادر على إغناء جميع الخلائق وهو المستغني عنهم‏.‏ وأما الآية الثانية فإنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ والمراد أنه تعالى منزه عن طاعات الطائعين وعن ذنوب المذنبين وأنه لا يزداد جلاله بالطاعات ولا ينقص بالمعاصي‏.‏ وقيل لما بين أن له ما في السموات وما في الأرض وقال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وكان الله غنياً حميداً‏}‏ فالمراد منه أنه تعالى هو الغني وله الملك فاطلبوا منه ما تطلبون فهو يعطيكم لأن له ما في السموات وما في الأرض‏.‏ وأما الثالثة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا‏}‏ أي فتوكلوا عليه ولا تتوكلوا على غيره فإنه المالك لما في السموات والأرض‏.‏ وقيل تكريرها تعديدها لما هو موجب تقواه لتتقوه وتطيعوه ولا تعصوه لأن التقوى والخشية أصل كل خير‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم أيها الناس‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد المشركين والمنافقين ‏{‏ويأت بآخرين‏}‏ بغيركم هم خير منكم وأطوع له ففيه تهديد للكفار والمعنى أنه يهلككم أيها الكفار كما أهلك من كان قبلكم، إذ كفروا به وكذبوا به وكذبوا رسله ‏{‏وكان الله على ما ذلك قديراً‏}‏ يعني وكان الله على ذلك الإهلاك وإعادة غيركم قادراً بليغاً في القدرة لا يمتنع عليه شيء أراده لم يزل ولا يزال موصوفاً بالقدرة على جميع الأشياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏134- 136‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏134‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏135‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏136‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد ثواب الدنيا‏}‏ يعني من كان يريد بعمله عرضاً من الدنيا نزلت في مشركي العرب وذلك أنهم كانوا يقرون بالله تعالى خالقهم ولا يقرون بالبعث يوم القيامة فكانوا يقربون إلى الله ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها وقيل نزلت في المنافقين لأنهم كانوا لا يصدقون بيوم القيامة، وإنما كان يطلبون بجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عاجل الدنيا وهو ما ينالونه من الغنيمة ‏{‏فعند الله ثواب الدنيا والآخرة‏}‏ يعني الذين يطلبون بأعمالهم وجهادهم ثواب الدنيا وما ينالونه من الغنيمة مخطئون في قصدهم لأن الله عنده ثواب الدنيا وثواب الآخرة فلو كانوا عقلاء لطلبوا ثواب الآخرة حتى يحصل لهم ذلك ويحصل لهم ثواب الدنيا على سبيل التبعية والمعنى أن من أراد بعمله الدنيا آتاه الله منها أراد وصرف عنه من شرها ما أراد وليس له ثواب في الآخرة يجزى به، ومن أراد بعمله وجه الله ثواب الآخرة فعند الله ثواب الدنيا والآخرة يؤتيه من الدنيا ما قدر له ويجزيه في الآخرة خير الجزاء ‏{‏وكان الله سميعاً‏}‏ يعني لأقوالهم وما يسرونه من طلب ثواب الدنيا ‏{‏بصيراً‏}‏ يعني بنياتهم وما في نفوسهم بصيراً بمن يطلب الدنيا بعمله وبمن طلب الآخرة بعمله‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله‏}‏ قال السدي إن فقيراً وغنياً اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان صغوه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأنزل الله هذه الآية وأمر بالقيام بالقسط مع الغني والفقير وقيل إن هذه الآية متعلقة بقصة طعمة بن أبيرق فهي خطاب لقومه الذين جادلوا عنه وشهدوا به بالباطل، فأمرهم الله تعالى أن يكونوا قائمين بالقسط شاهدين لله على كل حال ولو على أنفسهم وأقاربهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كونوا قوامين بالقسط‏}‏ القوام مبالغة في القيام بالعدل في جميع الشهادات واجتناب الجور فيها قال ابن عباس كونوا قوامين بالعدل في جميع الشهادات على من كانت شهداء لله يعني أقيموا شهادتك لوجه الله كما أمركم فيها فيقول الحق في شهادته ‏{‏ولو على أنفسكم‏}‏ يعني ولو كانت الشهادة على أنفسكم أمر الله العبد أن يشهد على نفسه بالحق في شهادته ‏{‏ولو على أنفسكم‏}‏ يعني ولو كانت الشهادة على أنفسكم أمر الله العبد أن يشهد على نفسه بالحق وهو أن يقر على نفسه وذلك الإقرار يسمى شهادة في كونه موجباً للحق عليه ‏{‏أو الوالدين والأقربين‏}‏ يعني ولو كانت الشهادة على الوالدين والأقربين من ذوي رحمه أو أقاربه والمعنى قولوا الحق ولو على أنفسكم أو على الوالدين أو الأقارب فأقيموا الشهادة عليهم لله تعالى ولا تحابوا غنياً لغناه ولا ترحموا فقيراً لفقره فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يكن‏}‏ يعني المشهود عليه ‏{‏غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما‏}‏ يعني منكم والمعنى كلوا أمرهم إلى الله تعالى فهو أعلم بهم وبحالهم وإنما قال بهما على التثنية لأن رد الضمير إلى المعنى دون اللفظ يعني فالله أولى بالغني والفقير ‏{‏فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا‏}‏ يعني فلا تتبعوا الهوى واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق في أداء الشهادة وقيل معناه اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل، لأن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى ‏{‏وإن تلووا‏}‏ قرئ بواوين ومعناه أن يلوي الشاهد لسانه إلى غير الحق قال ابن عباس يلوي لسانه بغير الحق ولا يقيم الشهادة على وجهها ‏{‏أو تعرضوا‏}‏ يعني أو يعرض الشاهد عن الشهادة فيكتمها ولا يقيمها يقال لويته حقه إذا دفعته عنه ومطلته به، وقيل معناه وإن تلووا عن القيام بأداء الشهادة أو تعرضوا عنها فتتركوها وقيل معناه التحريف والتبديل في الشهادة من قولهم لويت الشيء إذا قبلته وقيل هو خطاب مع الحكام يقول وإن تلووا يعني تميلوا مع أحد الخصمين دون الآخر أو تعرضوا عنه بالكلية وقرئ تلوا بواو واحدة من الولاية فهو خطاب للحكام أيضاً ومعناه فلا تلوا أمور المسلمين وتضيعوهم أو تعرضوا عنهم ‏{‏فإن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ يعني أنه تعالى يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فيجازيكم بأعمالكم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله‏}‏ قال ابن عباس نزلت في عبدالله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلام ابن أخت عبدالله بن سلام وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين فهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بل آمنوا بالله وبرسوله محمد والقرآن وبكل كتاب كان قبله» فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ يعني بمحمد والقرآن وبموسى والتوراة آمنوا بالله ورسوله أسم جنس يعني آمنوا بجميع رسله وقيل هو خطاب لأهل الكتاب جميعاً والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن وقيل هو خطاب للمنافقين والمعنى يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم آمنوا بقلوبكم حتى ينفعكم الإيمان لأن الإيمان باللسان لا ينفع من غير مواطأة القلب وقيل هو خطاب للمؤمنين والمعنى يا أيها الذين آمنوا في الماضي والحال آمنوا في المستقبل ودموا واثبتوا على الإيمان والكتاب ‏{‏والكتاب الذي نزل على رسوله‏}‏ يعني القرآن ‏{‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏ يعني وآمنوا بالقرآن وبجميع الكتب الذي أنزلها على أنبيائه قبل القرآن فيكون الكتاب اسم جنس لجميع الكتب ‏{‏ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 138‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ‏(‏137‏)‏ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏138‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً‏}‏ قال ابن عباس نزلت في اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادتهم العجل ثم بعد ذلك كفروا بعيسى والإنجيل ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقيل إنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعده ثم آمنوا بداود ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل نزلت في المنافقين وذلك أنهم آمنوا ثم كفروا بعد الإيمان ثم آمنوا يعني بألسنتهم وهو إظهارهم الإيمان لتجري عليهم أحكام المؤمنين ثم ازدادوا كفراً يعني بموتهم على الكفر‏.‏ وقيل بذنوب أحدثوها في الكفر وقيل هم قوم آمنوا ثم ارتدوا إلى الكفر ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً يعني بموتهم عليه‏.‏ وذلك لأن من تكرر منه الإيمان بعد الكفر والكفر بعد الإيمان مرات كثيرة يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلبه، ومن كان كذلك لا يكون مؤمناً بالله إيماناً صحيحاً وازديادهم الكفر هو استهزاؤهم وتلاعبهم بالإيمان ومثل هذا المتلاعب بالدين هل تقبل توبته أم لا‏؟‏ حكي عن علي ابن أبي طالب أنه قال لا تقبل توبته بل يقتل وذهب أهل العلم إلى أن توبته مقبولة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم يكن الله ليغفر لهم‏}‏ يعني ما أقاموا على الكفر وماتوا عليه وذلك لأن الله تعالى أخبر أنه يغفر الكفر إذا تاب منه بقوله قل للذين كفروا إن ينتهوا يعني عن الكفر يغفر لهم ما قد سلف يعني من كفرهم ‏{‏ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏ يعني طريق هدى وقيل لا يجعلهم بكفرهم مهتدين‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً‏}‏ يعني أخبرهم يا محمد وأنما وضع بشر مكان أخبر تهكماً بهم وقيل البشارة كل خبر تتغير به بشرة الوجه ساراً كان ذلك الخبر أو غير سار وقيل معناه اجعل موضع بشارتك لهم العذاب لأن العرب يقول تحيتك الضرب أي هذا بدل من تحيتك قال الشاعر‏:‏

وخيل قد دلفت لها بخيل *** تحية بينهم ضرب وجيع

تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 141‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ‏(‏139‏)‏ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ‏(‏140‏)‏ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ‏(‏141‏)‏‏}‏

ثم وصف الله تعالى المنافقين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏ يعني يتخذون اليهود أولياء وأنصاراً وبطانة من دون المؤمنين وذلك أن المنافقين كانوا يقولون إن محمداً لا يتم أمره فيوالون اليهود فقال الله تعالى رداً على المنافقين‏:‏ ‏{‏أيبتغون عندهم العزة‏}‏ يعني يطلبون من اليهود العزة والمعونة والظهور على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ‏{‏فإن العزة لله جميعاً‏}‏ يعني فإن القوة والقدرة والغلبة لله جميعاً وهو الذي يعز أولياءه وأهل طاعته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين‏}‏ ‏{‏وقد نزل عليكم‏}‏ يا معشر المسلمين ‏{‏في الكتاب‏}‏ يعني القرآن ‏{‏أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها‏}‏ قال المفسرون الذي أنزل عليهم في النهي عن مجالستهم هو قوله تعالى في سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره‏}‏ وهذا أنزله بمكة لأن المشركين كانوا يخوضون في القرآن ويستهزؤون به في مجالسهم ثم إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين وكان المنافقون يجلسون إليهم ويخوضون معهم في الاستهزاء بالقرآن فنهى الله المؤمنين عن القعود معهم بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره‏}‏ يعني يأخذوا في حديث آخر غير الاستهزاء بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة ‏{‏إنكم إذاً مثلهم‏}‏ يعني أنكم يا أيها الجالسون مع المستهزئين بآيات الله إذا رضيتم بذلك فأنتم وهم في الكفر سواء‏.‏ قال العلماء وهذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر ومن رضي بمنكر أو خالط أهله كان في الإثم بمنزلتهم إذا رضي له وإن لم يباشره فإن جلس إليهم، ولم يرض بفعلهم بل كان ساخط له وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر فيه أهون من المجالسة مع الرضا وإن جلس مع صاحب بدعة أو منكر ولم يخض في بدعته أو منكره فيجوز الجلوس معه مع الكراهة وقيل لا يجوز بحال والأول أصح ‏{‏إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً‏}‏ أي إنهم اجتمعوا في الدنيا على الاستهزاء بآيات الله وكذلك يجمعهم في عذاب جهنم يوم القيامة قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين يتربصون بكم‏}‏ نزلت في المنافقين والمعنى ينتظرون ما يحدث بكم من خير أو شر ‏{‏فإن كان لكم فتح من الله‏}‏ أي ظفر على عدوكم، وغنيمة تنالونها منهم ‏{‏قالوا‏}‏ يعني المنافقين لكم ‏{‏ألم نكن معكم‏}‏ يعني في الوقعة والفتح فأعطونا من الغنيمة وقيل معناه ألم نكن على دينكم وفي الجهاد كنا معكم فاجعلوا لنا نصيباً من الغنيمة ‏{‏وإن كان للكافرين نصيب‏}‏ أي دولة وظهور على المسلمين ‏{‏قالوا‏}‏ يعني المنافقين للكفار ‏{‏ألم نستحوذ عليكم‏}‏ الاستحواذ هو الاستيلاء والغلبة يقال استحوذ فلان على فلان أي غلب عليه والمعنى أم نغلبكم ونتمكن منكم ومن قتالكم وأسركم ثم لم نفعل ذلك وقيل معناه ألم نغلبكم على رأيكم ‏{‏ونمنعكم من المؤمنين‏}‏ يعني في صلاتهم والدخول في دينهم وقيل معناه ألم ندفع المؤمنين بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إياكم بأخبارهم وأسرارهم فهاتوا نصيباً مما أصبتم منهم ومراد المنافقين إظهار المنة على الكفار‏.‏

فإن قلت لمَ سمي ظفر المؤمنين فتحاً وسمي ظفر الكافرين نصيباً‏.‏ قلت تعظيماً لشأن المؤمنين وتخسيساً لحظ الكافرين لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء حتى ينزل النصر على المسلمين وأما ظفر الكفار فما هو إلا حظ دنيء ونصيب خسيس لا يبقى منه إلا ما نالوه ولهم في الآخرة العقوبة الشديدة على ذلك النصيب الذي نالوه من المسلمين ‏{‏فالله يحكم بينكم يوم القيامة‏}‏ يعني الفريقين فريق المؤمنين وفريق المنافقين والمعنى إنما وضع السيف عن المنافقين في الدنيا لا لأجل كرامتهم بل أخر عذابهم إلى يوم القيامة ‏{‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس أن المراد به يوم القيامة بدليل أنه عطف على قوله تعالى فالله يحكم بينكم يوم القيامة روي أن رجلاً سأل علي بن أبي طالب عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وأن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ وهم يقتلوننا فقال ولن يجعل الله للكافرين يوم القيامة على المؤمنين سبيلاً‏.‏ والقول الثاني إن هذا في الدنيا والمعنى أن حجة المؤمنين غالبة في الدنيا على الكافرين وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة وقيل معناه إن الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً بأن يمحو دولة المؤمنين بالكلية حتى يستبيحوا بيضتهم فلا يبقى أحد من المؤمنين وقيل معناه إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً بالشرع فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة ويتفرع على ذلك مسائل من أحكام الفقه منها أن الكافر لا يرث المسلم ومنها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم لم يملكه بدليل هذه الآية ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبداً مسلماً ومنها أن المسلم لا يقتل بالذمي بدليل هذه الآية‏.‏